بسم الله الرحمن الرحيم
شرح حديث أبي هريرة: "ما نقصت صدقة من مال"
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((ما نقَصتْ صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا،
وما تواضَعَ أحدٌ لله إلا رفَعَه الله عز وجل))؛
رواه مسلم.
قال سَماحة العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:
ثم ذكر المؤلِّف الحديث الآخر أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال:
((ما نقَصتْ صدقةٌ من مال))؛
يعني الإنسان إذا تصدق فإن الشيطان يقول له:
أنت إذا تصدَّقتَ نقَص مالُك، عندك مائة ريال،
إذا تصدَّقتَ بعشرة لم يكن عندك إلا تسعون،
إذًا نقص المال فلا تتصدق، كلما تصدَّقت ينقص مالك.
ولكن من لا ينطق عن الهوى يقول: إن الصدقة لا تنقص المال،
لا تنقصه لماذا؟ قد تنقصه كمًّا، لكنها تزيده كيفًا وبركة،
وربما هذه العشرة يأتي بدلها مائة، كما قال تعالى:
﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ [سبأ: 39]؛
أي: يجعل لكم خلفًا عنه عاجلًا، وأجرًا وثوابًا آجلًا، قال تعالى:
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ﴾ [البقرة: 261].
والمسلمون اليوم مقبلون على شهر رمضان، وشهر رمضان مقبل عليهم،
فهو شهر الجود والكرم، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكرَمَ الناس،وكان أجوَدَ الناس،
وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيُدارسه القرآن،
فلرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجوَدُ بالخير من الريح المرسلة.
الريح المرسلة التي أمَرَها الله وأرسلها فهي عاصفة سريعة،
ومع ذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام أسرع بالخير في رمضان من هذه الريح المرسلة،
فينبغي لنا إن كانت زكاة فزكاة، وإن كانت تبرعًا فتبرُّع؛ لأنه شهر الخير والبركة والإنفاق.
ويزيد العامة على قوله صلى الله عليه وسلم:
((ما نقَصتْ صدقةٌ من مال))
يجري على ألسنة العامة قولهم: ((بل تزده))، وهذه لا صحة لها،
فلم تصحَّ عن الرسول عليه الصلاة والسلام،
وإنما الذي صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله:
((ما نقصت صدقة من مال)).
فالزيادة التي تحصل بدل الصدقة إما كمية وإما كيفية.
مثال الكمية: أن الله تعالى يفتح لك بابًا من الرزق ما كان في حسابك.
والكيفية: أن ينزل الله لك البركة فيما بقي من مالك.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا))،
إذا جنى عليك أحد وظلَمَك في مالك، أو في بدنك، أو في أهلك، أو في حقٍّ من حقوقك،
فإن النفس شحيحة تأبى إلا أن تنتقم منه، وأن تأخذ بحقك، وهذا لك؛ قال تعالى:
﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾
[البقرة: 194]،
وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾
[النحل: 126].
فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا))،
والعز ضد الذل، والذي تحدِّثك به نفسُك أنك إذا عفوت فقد ذلَلْتَ أمام من اعتدى عليك،
فهذا من خداع النفس الأمارة بالسوء ونهيها عن الخير؛
فإن الله تعالى يُثيبك على عفوك هذا، فالله لا يزيدك إلا عزًّا ورفعة في الدنيا والآخرة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((وما تواضَعَ أحدٌ لله إلا رفَعَه))،
وهذه الرفعة تكون بسبب التواضع والتضامن والتهاون،
ولكن الإنسان يظن أنه إذا تواضع نزل، ولكن الأمر بالعكس،
إذا تواضعتَ لله فإن الله تعالى يرفعك.
وقوله: "تواضع لله" لها معنيان:
المعنى الأول: أن تتواضع لله بالعبادة، وتخضع لله، وتنقاد لأمر الله.
المعنى الثاني: أن تتواضع لعباد الله من أجل الله، وكلاهما سبب للرفعة،
وسواء تواضعت لله بامتثال أمره واجتناب نهيه وذللت له وعبَدتَه،
أو تواضعت لعباد الله من أجل الله، لا خوفًا منهم، ولا مداراة لهم،
ولا طلبًا لمال أو غيره، إنما تتواضع من أجل الله عز وجل،
فإن الله تعالى يرفعك في الدنيا أو في الآخرة.
فهذه الأحاديث كلُّها تدل على فضل الصدقة والتبرع،
وبذل المعروف والإحسان إلى الغير،
وأن ذلك من خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
/
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
المصدر: «شرح رياض الصالحين» (3/ 404- 409)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق