بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف التوكل:
قال ابن عباس: التوكل هو الثقة بالله،
وصدق التوكل أن تَثِق في الله
وفيما عند الله، فإنه أعظم وأبقى مما لديك في دنياك.
أهمية التوكل ومنزلته من العقيدة والإيمان والسلوك:
التوكل على الله خلقٌ عظيم من أخلاق الإسلام،
وهو من أعلى مقامات اليقين، وأشرف أحوال المقربين،
وهو نظام التوحيد وجماع الأمر؛ كما أنه نصف الدين والإنابة،
نصفه الثاني، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، وهو مفتاح كل خير؛
لأنه أعلى مقامات التوحيد وعبادة من أفضل العبادات،
وهو فريضة يجب إخلاصه لله تعالى وعقيدة إسلامية؛ لقوله تعالى:
﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
[المائدة: 23].
فإن تقديم المعمول يفيد الحصر؛ أي:
وعلى الله فتوكلوا لا على غيره.
إن التوكل شرط من شروط الإيمان، ولازم من لوازمه ومقتضياته،
فكلما قوِي إيمان العبد، كان توكله أكبر،
وإذا ضعُف الإيمان ضعُف التوكل؛ قال الله - عز وجل -:
﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾
[آل عمران: 122]،
وفي الآية الأخرى:
﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾
[يونس: 84].
فجعل دليل صحة الإسلام التوكُّل، وهو من أشرف الرُّتب
وأعلى المقامات من أعمال القلوب، التي هي أصل الإيمان
الذي هو أجلُّ وأعظم ما تُعِبِّد الله تعالى به،
والتوكل من أجمع أنواع العبادة وأعظمها؛ لِما ينشأ عنه من
الأعمال الصالحة، والتوكل مقترن بمراتب الدين الثلاث:
(الإيمان والإسلام والإحسان)، وشعائره العظام،
والتوكل مقام جليل القدر، عظيم الأثر،
جعله الله سببًا لنيل محبَّته؛
ال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾
[آل عمران: 159].
وجمع الله بينه وبين الهداية والحق والدعاء.
التوكل أصل من أصول العبادة التي لا يتم توحيد العبد إلا به،
جاء الأمر به في كثير من الآيات؛ مثل قوله تعالى:
﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ [هود: 123]،
وقوله - عز وجل -: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾
[الفرقان: 58].
وهو من سمات المؤمنين الصادقين قال تعالى:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾
[الأنفال: 2]،
وفي حديث:
((أربع لا يعطيهنَّ الله إلا مَن أحبَّ: الصمت
وهو أول العبادة، والتوكل على الله، والتواضع والزهد في الدنيا))؛
رواه الطبراني وهو في "اتحاف السادة".
وقال علي: يا أيها الناس، توكلوا على الله،
وثِقوا به؛ فإنه يكفي مما سواه.
و مما يدل على أهميته أيضًا ضرورته للعبد وعدم استغنائه
عنه طرْفة عينٍ من عدة جهات:
1- من جهة فقر العبد وعدم ملكه شيئًا لنفسه،
فضلاً عن غيره من المخلوقين.
2- من جهة كون الأمر كله بيد الله تعالى.
3- من جهة أن تعلق العبد الزائد بما سوى الله مضرة عليه.
4- من جهة أن اعتماد العبد على المخلوق وتوكُّله
عليه، يوجب له الضرر من جهته عكس ما أمَّله منه.
من أقوال السلف في بيان أهمية التوكل وارتباطه بالإيمان:
ابن عباس: التوكل جماع الإيمان.
سعيد بن جبير: التوكل على الله نصف الإيمان.
ابن القيم: إن التوكل يجمع أصلين: علم القلب، وعمله،
أما علمه: فيقينه بكفاية وكيله وكمال قيامه بما وكَله إليه،
وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك،
وأما عمله: فسكونه إلى وكيله وطُمَأنينته إليه،
وتفويضه وتسليمه أمرَه إليه، ورضاه بتصرُّفه له فوق رضاه
بتصرُّفه هو لنفسه.
عوائق التوكل:
1- الجهل بمقام الله من ربوبية وألوهية، وأسماء وصفات.
2- الغرور والإعجاب بالنفس.
3- الركون للخلق والاعتماد عليهم في قضاء الحاجات.
4- حب الدنيا والاغترار بها مما يحول بين العبد والتوكُّل؛
لأنه عبادة لا تصِح مع جعْل العبد نفسه عبدًا للدنيا.
ومن الأدلة على ارتباط التوكل بالأخذ بالأسباب:
من القرآن: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾ [النساء: 71]،
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾
[الأنفال: 60]،
﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
[الجمعة: 10]،
﴿ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾
[الأنفال: 69]،
﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾
[البقرة: 197]،
وقوله تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ
فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾
[آل عمران: 159]،
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾
[آل عمران: 123]،
﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾
[مريم: 25]،
﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ
وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ﴾
[النساء: 78]،
{﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾
[الأنبياء: 80]،
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ﴾ [النساء: 71]،
ومن السنة حديث: (وجعل رزقي تحت ظل رُمحي)؛
رواه أحمد، وابن أبي شيبة، وذكره البخاري تعليقًا،
والهيثمي في المَجمع.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال:
جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ناقة له، فقال:
يا رسول الله، أدَعها وأتوكَّل؟ فقال: اعْقلها وتوكل؛
رواه الترمذي وابن أبي الدنيا، وأبو نُعيم والبيهقي، وابن حبان.
وعن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
لو أنكم توكَّلون على الله حقَّ توكُّله، لرزقكم كما يرزق الطير؛
تغدو خِماصًا، وتعود بطانًا؛
رواه أحمد، وابن المبارك في الزهد،
والترمذي في الزهد، وابن ماجه في الزهد،
والحاكم وصحَّحه، ووافَقه الذهبي والبيهقي في الشُّعَب،
وأبو نُعيم في الحلية وغيرهم.
خماصًا: جياعًا، بطانًا: مُمتلئات البطون،
والمعنى الإجمالي للحديث:
أن التوكل الصحيح هو تفويض الأمر إلى الله - عز وجل -
والثقة بحُسن النظر فيما أمر به، فلو أن المسلمين
يتوكلون على الله - جل ثناؤه - في كل شؤونهم،
لرزَقهم كالطير تمامًا، ولكن بعضهم يعتمد على قوته
وحذره، ويحلف بالباطل، وكل هذا خلاف التوكل.
وعن المقدام بن معدي كرب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده،
وإن نبي الله داود - عليه السلام - كان يأكل من عمل يده؛
رواه البخاري، وابن ماجه، وأحمد، والبيهقي في الشُّعَب.
وعن عمر - رضي الله عنه - قال:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يُنفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي،
فيجعله مجعل مال الله،
فعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك حياته؛
رواه البخاري، ومسلم.
ولقي عمر بن الخطاب ناسًا من أهل اليمن، فقال:
من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، فقال أنتم المُتَّكلون،
إنما المتوكل الذي يُلقي حبةً في الأرض ويتوكَّل على الله،
وفي ذلك الرد البليغ على من يتركون الأسباب
تقاعسًا بدعوى التوكل على الله، ولو صدَقوا لأحسَنوا العمل.
أما التواكُل، فهو ترك الكسب، والطمع في المخلوقين،
والاعتماد عليهم بالتخلي عن الأسباب
التي وضعها الله - عز وجل -
والانقطاع عن السعي والتقاعد عن العمل،
وانتظار النتائج من الخلق أو القدر،
أو الاتكال على الله أن يَخرِق له العوائد،
ولأصحاب هذا المفهوم أدلة،
والتواكل خِسَّة هِمَّة، وعدم مُروءة؛
لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها
في الدنيا من ترتُّب المسببات على الأسباب،
ولقد حارب الإسلام التواكل وحذَّر منه،
وهو حرام ليس
من الشرع أصلاً، وهو مخالف للنصوص.
💕
أ. د. سليمان بن قاسم بن محمد العيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق